الإسلام السياسي والخيارات الكبرى المستحيلة

الإسلام السياسي والخيارات الكبرى المستحيلة

البروفيسور وليد جميل الأيوبي

 

السياق التاريخي  

كان للتحولات الفلسفية والسياسية التي شهدتها أوروبا ابتداء من القرن السابع عشر أثر عظيم على عملية التحول في الممارسة السياسية من الفضاء الديني الى الفضاء الزمني، ومن حالة الطبيعة الى حالة الدولة، ومن حكم العروش الى حكم الشعوب. وبما أن الإسلام عبارة عن منظومة من العقائد المتكاملة، فقد كانت عملية إحيائه قرارا بدأ مع “الصحوة الاسلامية”، ومن أبرز أعلامها جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وغيرهم.

في المبدأ، لا تفاضل التيارات الإسلامية حاكما زمنيا على آخر، ولا مركزا استعماريا على آخر، ف”الشرق” ليس أقل استعمارية من “الغرب” من منظور هذه التيارات. فكما فرض الغرب على تركيا الكمالية التخلّي عن الحرف العربي واستبداله بالحرف اللاتيني، فإن الصين ضمّت في النصف الأول من القرن العشرين إقليم “شينجيانغ” المسلم، ذات الثروات الطبيعية الغنية. أما “موسكو” فقد حرّمت بدورها على شعوب آسيا الوسطى الإسلامية خلال الحقبة السوفياتية استعمال الحرف العربي مرغمة إياها على استبداله بالأبجدية السلافية.

تزامنت هزيمة السوفيات في أفغانستان خلال ثمانينات القرن العشرين مع نهاية الحرب الباردة وتعاظم دور الإسلام الجهادي على الساحة الدولية. وقد شكّلت أحداث 11 أيلول 2001 الإرهابية محطة تحول عميقة جعلت المسألة الأمنية على رأس أولويات دول العالم، ولا سيما واشنطن المعنية الأولى بهذه المسألة، التي سخّرت هذا الحدث الجلل لتحقيق أهدافها الإمبراطورية، فكان احتلال أفغانستان والعراق بداية نهاية الظاهرة الإسلامية الجهادية.

يشهد “الإسلام الجهادي” اليوم ذروة انقساماته العمودية والأفقية، فاالتنظيمات المجاهدة السنية تحارب بعضها البعض في أوكرانيا، نتيجة اقتسامها بين المحاور الدولية المتحاربة، بعد أن تم إفنائها في سوريا والعراق وغزة، ناهيك عن التنظيمات المجاهدة الشيعية المنغمسة من رأسها حتى أخمص قدميها في الاصطفافات والصراعات الإقليمية والدولية.

وقد وجد “الإسلام المدني” المتمثل بتنظيم “الإخوان المسملين” في ظل “الربيع العربي” ضالته المنشودة، فكانت هذه المحطة بمثابة “حصان طروادة” الذي امتطاه هذا التنظيم للقبض على السلطة. وقد ساعدهم على إنجاز خطتهم عاملين بارزين: 1- سلسلة الهزائم العسكرية والسياسية التي منيت بها النظم السياسية العربية على مر تجربتها المعاصرة المريرة. 2-  امتعاض دوائر صنع القرار في الغرب من سياسات دول عربية كتونس ومصر وليبيا وسوريا.

فقد أشارت وثائق “ويكيليكس” الى أن العلاقات بين القاهرة وواشنطن كانت تتسم بالإضطراب قبيل اندلاع ثورة يناير 2011 بسنوات معدودات، مع العلم بأن الدبلوماسية الأميركية كانت غير قادرة على التنبؤ بحدوث الربيع العربي في الحالة المصرية.

فقد ورد على لسان السفير الأميركي في القاهرة “فرنسيس ريتشاردوني” بأنه ”لن تكون ثورة برتقالية على ضفاف “النيل” طالما كان “مبارك” موجوداً على رأس السلطة”، رغم محاولتنا إسقاطه عن طريق “ألف جرح صغير” على حد تعبير “ريتشاردوني” نفسه.

ونظرا لفشل “واشنطن” باستمالة العسكر المصري اليها، وبما أنها كانت تعتبر نظام “مبارك” نظاماً غير متعاون، فلم يكن أمامها من بديل سياسي قادر على تولي المهمة الى جانب عسكر صديق لها سوى “الإخوان”، فكانوا أفضل البدائل المتاحة.

يتمحور هذا النص حول الأداء السياسي لتنظيمات الإسلام السياسي، ولا سيما لظاهرة الإخوان المسلمين. وقد شرع الكاتب في كتابة النص بوحي من الحرب الإسرائيلية الغاشمة على غزة ولبنان، بدافع الإجابة على التساؤلات الكثيرة المتعلقة بالإسلام السياسي المنخرط في هذه المواجهات. ويتألف النص من عنوان واحد يخصصه الكاتب لتقييم ظاهرة “الإسلام السياسي” في ضوء المواقف والسياسات التي تنتهجها التيارات الإسلامية والدول الداعمة لها، ولا سيما تنظيم “الإخوان المسلمين”.

 

الإسلام السياسي في ضوء الواقع

الظاهرة “الاخوانية” جزء لا يتجزّأ من الحراك الاسلامي العالمي الذي يمكن وضعه في خانات ست مختلفة ومتداخلة أبرزها الآتية:

1-الاسلام الجهادي: ويرفض رفضاً قاطعا الحداثة الغربية، كما يرفض المساكنة السياسية مع النظم العلمانية، ويتمثل بتنظيمات جهادية كتنظيم القاعدة وجبهة النصرة.

2-الاسلام الثوري: ويتسم بالبراغماتية، فيجمع بين الإسلام الجهادي والتحديث على الطريقة الغربية، وبالانفتاح على النظم السياسية العلمانية، ويتمثل بتجربة الجمهورية الاسلامية في إيران.

3-الاسلام المحافظ: وهو منفتح على فكرة المساكنة مع النظم السياسية الزمنية، ويتمثل بالحركة الوهابية في المملكة العربية السعودية.

4-الاسلام المدني: ويجمع بين المقاصد الاسلامية ومؤسسات الحداثة، ويتمثل بالتجربة السياسية “الإخوانية” في دول كتركيا وماليزيا وإندونيسيا.

5-الإسلام الدعوي: ويهتم هذا التيار بالتبشير الديني، كالجماعات الصوفية على سبيل المثالا لا الحصر، علما بأن الجماعات التي تمارس التبشير مؤثرة سياسيا، لكن من دون أن يكون لها طموحات سياسية مستقلة.

6-الإسلام الأمني: ويتمثل بتجربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، فهو عبارة عن صناعة أمنية-استخباراتية مرتبطة بتقاطعات ومصالح وحسابات الجهات الإقليمية والدولية.

إن مآخذي على الإسلام السياسي لا يعفي النظم السياسية العلمانية الحاكمة من المؤاخذة، فليست ظاهرة الإسلام السياسي سوى نتيجة طبيعية للإخفاقات التاريخية اللصيقة بهذه النظم المرتهنة لدوائر القرار العالمية. ولا يراودنا الظن قيد أنملة بأن توجه الإسلام السياسي عالميا لن يكون بعيدا عن توجه النظم السياسية العلمانية، فيما لو قيّض لها القبض على مقاليد السلطة. فلماذا تهدر إذن كل هذه الدماء؟!

وبمعزل عن خاصية المرونة في الأسلوب التي يتحلى بها “الإخوان المسلمون”، فإن مواقفهم من القضايا المعاصرة تتراوح بين حدين أدنى وأقصى:

أما الحد الأدنى فيتمثل بلزوم ارتداء النساء “الطرحة” كما صرّح بذلك الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في أعقاب لقائه المرشد العام الإخواني في خمسينيات القرن العشرين، في وقت كانت فيه كريمة المرشد نفسه تتابع دراستها الجامعية في مصر من دون ارتداء الطرحة على حد تصريح الرئيس المصري الراحل، أو تعبير فئة من الإخوان عن تفهمهم ارتداء النساء المسلمات اللباس السافر للاستجمام، كونه تصرف يقع في رأيهم في دائرة الحرية الشخصية.

أما الحد الأقصى فيعبر أصحابه عن رؤية الإخوان العالمية التي تتمثل بالسعي الى تغيير الأنظمة السياسية المارقة وإقامة الحكم الإسلامي، وفاقا للمنهجية الفقهية السنية سبيلا لهيمنة الإسلام على العالم، فالدولة العبرية هي مجرّد تفصيل على الخريطة الجيوبوليتيكية العالمية، لا يستحق في رأيهم كل هذه التضحيات. فهل هي القرابة الدينية العامل المؤثر في هذا الموقف؟ ربما، أليس اليهود من أهل الكتاب؟ لكن هل يجيز الإسلام لأهل الكتاب أو لغيرهم التعدي على حقوق الآخرين؟

إن علاقة “الإخوان” بالسنّة كثيرة الشبه بعلاقة “حزب الله” بالشيعة، إذ ليس كل من انتمى الى الإسلام السنّي إخواني، وليس كل من انتمى الى الإسلام الشيعي حزباوي، فالحضارة الإسلامية حافلة بالحوارات والصراعات والتيارات والحركات والتنظيمات الفكرية والفلسفية والسياسية، كما إنها حافلة بالمصالح الاقتصادية المتكاملة والمتناقضة، وبالتحولات والتحديات الجيوبوليتكية.

ورغم العلاقات الطيبة تارة والمتوترة تارة أخرى بين الأكثرية السنية والأقلية الشيعية، فإن جدلية الأكثرية والأقلية في العالم الإسلامي لا تقتصر على الثنائية السنية الشيعية، بل تتعداها لتطال الأقليات العرقية السنيّة في العالم الإسلامي التي تنظر بعين غير مسلمة الى الأكثرية العربية السنيّة والشيعية.

كانت سمة العلاقات العربية البينية خلال المرحلة السابقة على الصراع على الطاقة الاستقرار. وما يسري على مستوى العلاقات العربية العربية، يسري أيضا على مستوى العلاقات الخليجية الإيرانية خلال المرحلة الشاهنشاية، لكن عامل الطاقة أسهم إسهاما فاعلا في تفجير التناقضات بين الدول المعنية.

وتتصدر المصلحة العلاقات السنية الشيعية، فالدوحة خاضت حربا طاحنة ضد إيران في سوريا، لكن العلاقات بين الدوحة الداعم العربي المطلق للإخوان، وطهران الداعم المطلق للنظام البائد في سوريا، تبدو طيبة. فقد سبق للدوحة أن صوّتت في مجلس الأمن ضد قرار فرض العقوبات الدولية على طهران، كما سبق لها أن شاركت طهران في مناورات عسكرية في مياه الخليج العربي.

فالبلدان يتشاركان في حقل غاز الشمال، ويتقاسمان 51 ترليون مترا مكعبا من الغاز، وحوالي ثمانية مليارات مترا مكعبا من مكثّفات الغاز الطبيعي، من أساس حقل تبلغ مساحته نحو عشرة آلاف كيلومترا مربعا، ستة آلاف منها موجودة في مياه قطر الإقليمية، وحوالي أربعة آلاف في المياه الإقليمية الإيرانية.

أما علاقات أنقرة بطهران فتبدو راسخة، فتركيا كانت البلد الوحيد مع البرازيل الذي اعترض في مجلس الأمن على القرار 1929 الذي فرض عقوبات على طهران لامتلاكها المفترض سلاحا نوويا. وقد أيّدت أنقرة حق إيران بالحصول على الطاقة النووية لأغراض مدنية، معترضة على تجاهل امتلاك الباكستان وإسرائيل هذا السلاح.

وقد بلغت براغماتية “الإخوان” مبلغا مع ضلوعهم في العديد من السياسات المناهضة للمصلحة الإسلامية، كشفت عنها تسريبات إعلامية مفادها أن “حمد بن جاسم” وزير خارجية قطر السابق كان عبّر عن رغبته في تقسيم المملكة العربية السعودية، ناهيك عن ضلوع النظام القطري الفاعل في “الربيع العربي” في دول كسوريا ومصر وليبيا واليمن، بتوجيهات من الإدارة الأميركية، باعتراف “الجاسم” نفسه  في 14 ت2 من العام 2017 في حديث له لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.

مما يجعل موقف “الجاسم” الذي يعبر عن السياسة القطرية منسجما مع أدبيات برنارد لوي ورالف بيتر وكارل جيرشمان وبرنارد ليفي وصموئيل هنتنغتون وغيرهم ممن تصبو أفكارهم الى تقسيم المقسّم وتجزئة المجزأ، ضمانا لسيادة المصالح الأميركية والغربية، وأمن ومصالح إسرائيل وسيادتها، من خلال العمل على إضعاف الكيانات السياسية العربية الوازنة.

وقد أشار الزعيم الإسلامي السوداني الدكتور “حسن الترابي” في حديث له مع “احمد منصور” أنه كان على تنسيق مع تل-أبيب، عندما كان الصراع العربي الصهيوني والمصري الإسرائيلي أيام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في أوجه.

يعتمد “الإخوان المسلمين” أينما حلّت رحالهم سياسات براغماتية، فهم ركيزة النظام الملكي في الأردن والمغرب، لكنهم يستعدون الأنظمة السياسية الملكية والأميرية في السعودية والإمارات، كما يستعدون الأنظمة السياسية العلمانية في مصر والجزائر وتونس، ويهادنون أو يتحالفون مع أخرى كالعراق.

وعلى حد شهادة أحد المراقبين الثقاة، فإن “الإخوان المسلمين” مقاتلون أشدّاء ملتزمون قضايا الأمة، في إشارة منه الى “إخوان” سوريا، لكن ريبة كبيرة تعتري قراراتهم السياسية، فتحركاتهم العسكرية يمليها عليهم الخارج على حد تعبير الراوي.

ويحمّل مراقبون “الإخوان المسلمين” المسؤولية عن مجزرة حماه الإرهابية بسبب انغماسهم الممنهج في عمليات اغتيال سياسية طالت النخب الموالية للنظام البائد، عدا عن انخراطهم في أحلاف إقليمية مغرضة، أبرزها محاولتهم التقرّب من حزب البعث الحاكم في العراق الذي خذلهم في سعيهم للإطاحة بحزب البعث الحاكم في سوريا.

ويقابل راديكالية “إخوان” سوريا براغماتية نظام البعث السوري العلماني الحاكم، وقابليته على الإنفتاح على الحركات الإسلامية، واقتراحه على الإخوان في المرحلة السابقة على جريمة حماه الإرهابية، المشاركة في السلطة، واحتضانه المبدئي حينا…والوسائلي أحيانا…للعديد من التنظيمات الإسلامية الأصولية، أمثال تنظيم حزب الله وحركة حماس، فالحكام العرب لم يفلحوا قط في مجال ما، كما أفلحوا في مجال “التعاون الأمني” مع دوائر القرار الأجنبية ضمانا لبقائهم في السلطة.

إن الإخوان المسلمين منغمسون في السياسات الدولية الغربية والشرقية على السواء، فهم يتحلّون بمرونة سياسية فائقة تحقيقا لمصلحة العليا للتنظيم، ما أفقدهم ثقة الرأي العام بهم نتيجة هذه المرونة الفائقة. أما تبرأتهم أنفسهم من أزمة الثقة التي يواجهونها، فقد كانت تتطلب منهم أقلّه الإعلان لحظة وصولهم على رأس السلطة التنفيذية في مصر في ظل الربيع العربي، عن قطع العلاقات مع تل-أبيب، لا تبادل الأنخاب بينهما على شاشات التلفزة. فهل يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه؟

وإذا كان يبدو للعيان أن الظاهرة الإخوانية ظاهرة لامركزية غير متماسكة، خلافا للظاهرة الحزباوية (تنظيم حزب الله) المركزية المتماسكة، وسواء كانت هذه “العاهة” مولدية أم إرادية أم عقائدية، فإن ذلك لا يبرر لأي مسؤول إخواني تجاوز الخطوط الحمر التي حدد معالمها الوعي الوطني والقومي والديني والأخلاقي.

إن المواقف من تنظيم الإخوان المسلمين لا حصر لها، كما إن آراء الإخوان المسلمين أنفسهم من مختلف القضايا المعاصرة لا حصر لها أيضا. لن نتهمهم لا بالماسونية ولا بغير الماسونية. ولا يهمنا إن كانوا كذلك أم ليسوا كذلك. فنحن نتابع حراكهم السياسي باهتمام، ونبني مواقفنا على ما لدينا من معطيات حسية، لا تحليل فيها ولا تأويلا، حول موقفهم من الإشكاليات المعاصرة الكثيرة والشائكة.

لقد أفقدت الميوعة التي يتحلّى بها الإسلام السياسي على وجه العموم ثقة الرأي العام بهم. وقد بلغت هذه البراغماتية الذروة في ظل الحرب الإسرائيلية الهمجية على سكان غزة الآمنين العزّل، حيث تحلّى الإسلام السياسي في ظل هذا العدوان بأقصى درجات ضبط النفس، شاهد زور على الجرائم التي ترتكب بحق الإنسانية، في وقت كانت تعج فيه المنطقة بالأساطيل الحربية الغربية ذودا عن إسرائيل.

وقد بلغت براغماتية الإسلام السياسي ذروة الذروة في ضوء طرح وزير الخارجية الإيراني عبّاس عرقجي مشروع حل الدولة الواحدة بديلا عن حل الدولتين. فبرأي “عرقجي”، فإن فكرة الدولتين غير قابلة للحياة، ومشروع الدولة الديمقراطية الواحدة التي يعيش في ظلها أصحاب الأرض الأصليين أي العرب واليهود حسب تعبيره، هو أفضل الحلول المتاحة، على أن يتم استفتاءهم حول هذا الموضوع، في وقت تؤكد فيه المملكة العربية السعودية المتهمة من قبل محور الممانعة بخيانة القضية الفلسطينية، حل الدولتين شرط سابق على تطبيع علاقاتها بتل-أبيب.

فكيف يستوي طرح وزير الخارجية الإيراني مع إمعان تل-أبيب بتصفية درتا تاج محور الممانعة، تنظيم حزب الله وحركة حماس؟! وكيف يستوي هذا الطرح مع شعارات الثورة الإسلامية في إيران التي تعتبر إسرائيل غدة سرطانية ينبغي استئصالها؟!

لقد بلغت عقيدة “فرّق تسد” الذروة في ظل سياسات الفوضى الخلاّقة التي شهدتها المنطقة، مما أدى الى فدرلة العراق، وتقطيع أوصال سوريا واليمن وليبيا ولبنان، مع العلم بأن أولى “ثمار” سياسات الفوضى الخلاّقة تتمثل بتقسيم المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الأولى بين مراكز النفوذ العالمية، وإنشاء الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية.

ولا تزال مشاريع الدول العظمى ترخي بثقلها على المنطقة في مشهد جيوبوليتيكي قل نظيره. فبمبادرة G20 بتاريخ 9 أيلول 2023 التي تنص على إنشاء ممر يربط الهند بالخليج العربي وأوروبا IMEEC (India-Middle-East-Europe Corridor) يشكل تحد سافر للمشروع الصيني الموسوم باسم “مشروع الحزام والطريق” Belt and Road Initiative.

ولم تقتصر سياسات واشنطن وبروكسيل على إشاعة الفوضى الخلاقة وتدمير أنظمة الحكم في البلاد العربية، في ظل “الربيع العربي”، بهدف التخلص من أنظمة الحكم غير المتعاونة، وإمعان السيطرة على الموارد الطبيعية والممرات البرية والمائية، بل كانت ترمي أيضا الى تقويض دعائم المصارف الإسلامية بشهادة سوروس وروتشيلد اللذين دعما الثورات العربية بهدف “قتل الأنشطة المصرفية الإسلامية”، والحؤول دون قيام نظام مصرفي عالمي إسلامي يكون منافسا للنظام الرأسمالي.

ولذلك، فقد تقاطعت المصالح الدولية على فكرة الاستثمار في ثورات “الربيع العربي” بطريقة أو أخرى، فالنمو الذي تشهده المصارف الإسلامية (الإسلام المالي) بمتوالية هندسية بفضل البترودولار، وإقبال المستهلك المسلم وغير المسلم عليها في البلاد العربية، وفي العديد من الدول الأوروبية ودول العالم، ينذر بأخطار كبيرة، ليس حصرا على المنظومة الرأسمالية، بل أيضا على مشروع البريكس، وتحديدا على محور بكين-موسكو، وعلى عموده الفقري المالي-الاقتصادي-السياسي، جمهورية الصين الشعبية.

إن الإسلام السياسي يسهم في تمكين مشروع الهلال الإخواني التركي، ومشروع الهلال الشيعي الإيراني، والمشروع الأميركي-الإسرائيلي، والمشروع الصيني-الروسي، من إمعان سيطرنهم على البلاد العربية. فهل بذلت الشعوب العربية كل هذه التضحيات في سبيل تحقيق استقلالها لتدور اليوم في الفلك التركي والفلك الإيراني والفلك الإسرائيلي؟! عدا عن محور واشنطن-لندن-بروكسيل ومحور بكين-موسكو! وما هي معالم مشروع “الإسلام السياسي” المنشود الذي به يعدون؟

لقد أدت التيارات والتنظيمات الإسلامية المناهضة للنظم السياسية الحاكمة في الوطن العربي وتلك الداعمة لبعضها، خدمة مجانية لكل من سوروس وروتشيلد، وللنظام الرأسمالي المهيمن على العالم، وللمحور المنافس الذي يسعى للاستقلال عن النظام الرأسمالي.

خلاصة

في المبدأ الدين مقدّس ثابت، أما السياسة فمتحركة. أما من منظور الإسلام السياسي الشيعي، فإن السياسة التي يجسدها الإمام المعصوم هي أصل في الدين وليست فرعا، إنها بمنزلة العقيدة من الدين، بل أم العقائد كلّها. أما لدى الإسلام السياسي السني، فإن السياسة هي فرع وليست أصلا، إنها تقع في دائرة النفع والضرر والخطأ والصواب، لا في دائرة الكفر والإيمان، كما هي الحال لدى الإسلام السياسي الشيعي على حد تعبير المفكّر الإسلامي حمد عمارة.

إن تعدد الرأي في ظل الحياة السياسية مباح، ليس بين المسلمين وغير المسلمين وحسب، بل بين تيارات الإسلام السياسي السني نفسها، ما يفسر ظاهرة تناسل المشاريع والمقاربات لدى تيارات الإسلام السياسي السنّي. فهل تولد هذه الظاهرة القدرة الكفيلة بتحقيق الأهداف الكبرى المنشودة؟

إن جهاد هذه التيارات والتنظيمات، والجهات الداعمة لها، لم يكن يتم لصالح أي مصلحة إسلامية استراتيجية عليا، إلا إذا سلّمنا جدلا بأن جل ما تقوم به هذه التيارات والتنظيمات هو مفاضلة السيء على الأسوأ، أو إنهم ربما يعلمون علم اليقين ماذا يصنعون، حينها يكون المشروع الإسلامي الكبير الذي ناضل من أجله تحقيقه الأجداد قد أفسده عمدا الأحفاد.

يقول مؤسس الدولة العبرية “دافيد بن غوريون”: “إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا مباشرة، وبشكل عنيف، هو الخطر الاسلامي. إن المسلمين عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي. إنهم يملكون تراثهم الروحي الخاص بهم ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة. إنهم جديرون بأن يُقيموا قواعد عالم جديد، دون حاجة الى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية. إني أخشى ما أخشاه أن يظهر في العالم العربي “محمد” جديد”.

لكن ما لم يقله “بن غوريون” ويعلمه علم اليقين ويراهن عليه كا الرهان هو أن التناقضات الظاهرة والكامنة بين الدول والتيارات والتنظيمات الإسلامية، كافية بحد ذاتها لإجهاض أي مشروع إسلامي عابر للحدود، فتعدد المرجعيات الدينية، وغياب الدولة السياسية المركزية، يقوّض كل إمكانيات التكامل والتعاون بين مكونات الحضارة الإسلامية، فيجعلها تتلقى من غيرها من الحضارات دروس في التاريخ، ويجردها بالتالي من القدرة على صناعة التاريخ.

يصب سلوك الإسلام السياسي بجناحه السني وجناحه الشيعي في مصلحة المحاور الدولية الكبرى، وعلى رأسها محور واشنطن-لندن-بروكسيل ومحور بكين-موسكو، لا في مصلحة أي مشروع سياسي إسلامي وحدوي مستقلا.

ولا يزال مشروع البناء السياسي الإسلامي تائها بين إسلام سياسي متغوّل وإسلام سياسي مائع، وإسلام سياسي أممي، وإسلام سياسي وطني، وإسلام سياسي إثني، وإسلام سياسي يدور في فلك الغرب، وإسلام سياسي يدور في فلك الشرق، وإسلام سياسي يستعدي الغرب، وآخر لا يستعدي الغرب كما صرّح بذلك أبا محمد الجولاني (أحمد الشرع) زعيم “هيئة تحرير الشام” في أعقاب انهيار النظام البائد.

وقد ساهم في تعقيد المشهد السياسي الوطني[1] والإقليمي والدولي خلاف تيارات الإسلام السياسي على جنس الملائكة فيما بينها، ومع التيارات والأنظمة السياسية القومية واليسارية والتقدمية والليبرالية والوطنية والمحافظة، ناهيك عن خلافات التيارات والأنظمة السياسية الزمنية فيما بينها، في وقت تمعن فيه مراكز القرار العالمية في تجذير التبعية والتخلف في طول البلاد وعرضها.

وإذا سلّمنا جدلا بأن الإسلام السياسي الأردوغاني والإسلام السياسي الخميني قد تمكنّا من فرض إرادتهما على الواقع السياسي الإقليمي، فكيف سينظمان علاقاتهما فيما بعد؟ بناء على أية مبادئ فقهية عندما يكووا مختلفين على الأصل والفرع؟ ولا سيما أن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بلسان الناطق باسمها “أبو عبيدة” لا ينفك يردد في رسائله الصوتية إسم “إبن تيمية” إصرارا من “الحركة” على الالتزام بإبن تيمية مرجعية دينية عليا للحركة؟!

ألا يخدم سيناريو المواجهة الطائفية السنية الشيعية المشار إليه أعلاه مجانا مصالح القوى العظمى، التي تعمل ليلا نهارا، في السر والعلن، على إفشال كل أشكال المشاريع الاتحادية الدينية والقومية في كل بقاع الأرض، لكي يكون لها على مصير هذه الشعوب الكلمة العليا.

لم يستطع الإسلام السياسي ولا حتى التيارات السياسية العلمانية طوال المئة سنة المنصرمة من تقديم نفسها نموذجا حضاريا وسياسيا بديلا، بل إن التيارات الدينية -والزمنية- على اختلاف مشاربها قد أمعنت في إغراق البلاد العربية منذ فجر استقلالها في حروب بينية داخلية وخارجية قاتلة، فلا تحررت فلسطين ولا تحققت التنمية ولا تدقرطت النظم السياسية.

لقد تعرّض “الإخوان المسلمون” لاضطهاد سياسي كبير جرّاء صراعهم مع السلطة في معظم البلاد العربية، لكنهم يتحملون المسؤولية عن تهورهم السياسي غير المسؤول، وتسببهم لأنفسهم وللمجتمع بمصائب وأهوال لا طائل منها، غافلين أو متغافلين أن أفضل وجوه الصراع ضد التخلف يكون بترسيخ الوحدة الوطنية.

فالتحول الذي تشهده سوريا يصب في المطلق في مصلحة الشعب السوري، لكنه تحول يضع سوريا في مهب تحديات كبرى أبرزها الآتية:

١.موقف الرأي العام السوري من الثورة السورية، فهو المادة الحيّة التي من دونها لا حيوية ولا حياة لا للثورة ولا لسوريا.

٢.موقف الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي من الثورة السورية، إذ كلما كان هذا الرأي مؤيدا وداعما ومناصرا، كانت سوريا أكثر حيوية ومناعة وفاعلية.

٣.الموقف السلبي من الثورة للدول العربية التي لا تربطها علاقات طيبة بظاهرة الإسلام السياسي، والتي تخشى من أن تكون هذه التنظيمات الجهادية جسر عبور أو حصان طروادة داخل البلاد العربية لصالح دول كتركيا وإيران وغيرهما.

٤.موقف عواصم القرار المتحفظ من الثورة، ولا سيما موقف كل من واشنطن وموسكو، رغم الدور الإيجابي الذي اضطلعتا به، من خلال توفير الشروط الكفيلة بتحقيق هذا النصر التاريخي بفعالية قل نظيرها.

ويبقى حسن التخطيط والتنفيذ والتقدير والتصرف والتدبير، الذي تتحلى به فصائل الثورة السورية المباركة، الشرط الضامن لقيادتها سوريا الجديدة نحو الحرية والسيادة والاستقلال، بعد أن أبهرت العالم بحسن خطابها وأدائها.

إننا في حركة “ثورة بلا حدود” نصبو الى أنسنة المجتمعات، ونراهن على دخول “الإسلام السياسي” في رحاب المواطنية الحقة، حيث يكون الفصل بين الدين والدولة، والوصل بين الدين والمجتمع، وحيث يكون كل الناس سواسية، بمعزل عن انتمائهم الديني والعرقي والإثني والطبقي، ونثمن عاليا الأفكار الجديدة والمفيدة التي تتحفنا بها شخصيات إسلامية سلفية ثورية سورية، وعلى رأسها مشروع إقامة الدولة المدنية في ظل سوريا الجديدة.

إننا في حركة “ثورة بلا حدود” الحركة اللبنانية الوطنية السيادية الديمقراطية المجتمعية المدنية العلمانية، نعتقد بأن الدولة المنشودة هي الدولة التي تقوم على جدلية الحقوق والواجبات لا على جدلية الكفر والإيمان، فالكفر والإيمان حق تكفله الدساتير الوضعية، وهو حق يمارس ضمن دائرة الحريات الشخصية، على ألا يخرج هذا الحق من هذه الدائرة، فيرتدي شكلا تنظيميا يسعى أصحابه من خلاله الى فرض أفكارهم على المجتمع بقوة السيف.

إننا في حركة “ثورة بلا حدود” لا نحمّل الإسلام السياسي ككل المسؤولية عن المواقف المائعة والمتذبذبة والمتهورة التي تتخذها دول وفصائل وشخصيات تنتمي الى هذا المعين. فقد أبلت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بلاء حسنا بعدم تورطها في الحرب السورية، وبتركيزها الحصري على القضية الأم، القضية الفلسطينية، ما يشفع لها كبواتها على الساحة الفلسطينية في ملف الوحدة الوطنية الفلسطينية، وعلى المستوى الإقليمي، فيما يتعلّق بتحالفها مع إيران، التي كنا نعلم علم اليقين أنها ستتخلّى عنها في اللحظة السياسية الوجودية الحرجة.

إننا في حركة “ثورة بلا حدود” نؤيد حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولا سيما حق الشعب الفلسطيني، والشعب السوري، في تقرير مصيره، لكننا لم نؤيد “الطوفان” الذي قامت بها حركة “حماس”، رغم إسهامه في إماطة اللثام عن زيف الحلف الذي تنتمي إليه.

وإننا لم نؤيد استراتيجية المشاغلة والإسناد التي اعتمدها تنظيم حزب الله انطلاقا من الأراضي اللبنانية، والتي جرّت على حماس، وبيئة حماس، وعموم الشعب الفلسطيني، وعلى حزب الله، وبيئة حزب الله، وعموم الشعب اللبناني، وعلى القضية الفلسطينية والقضية اللبنانية الخراب والدمار.

إننا في حركة “ثورة بلا حدود” نريد أن تتحلى حركة حماس بالحكمة، فيكون تواجدها في لبنان منسجما مع القوانين الوطنية مرعية الإجراء، من دون استباحة أو استقواء، فلبنان الذي وهب القضية الفلسطينية وكل القضايا القومية أفضل ما لديه، يستحق من حماس وغير حماس، ومن حزب الله وغير حزب الله، أفضل معاملة ممكنة.

إن العمل الجاد على قاعدة إنسانية مدنية استقلالية هو خريطة الطريق التي على القوى السياسية الحيّة في الوطن العربي انتهاجها، إذا ما أرادت فعلاً وليس قولاً، الانعتاق من ربقة التخلف والاستبداد والتبعية التي تواجهها، والدخول في رحاب الدولة السياسية المدنية التي توصل ولا تفصل، تجمع ولا تفرّق، دولة إحيائية لا تميت أحدا.

إننا في حركة “ثورة بلا حدود” كنا اقترحنا على كل حركات التحرر “الطريق الثالث” سبيلا سياسيا مدنيا لتحقيق أهدافنا التحريرية، نضعه بتصرف كل من يهمه الأمر، وإننا منفتحون على مناقشته مع أهل الرأي، علما بأن تطبيقه يتطلب صبرا استراتيجيا، وتفانيا استثنائيا، ومرونة سياسية، ومهارة تواصلية، وقدرات مالية ومادية غير عادية.

إن إسرائيل قد سقطت أخلاقيا سقوطا مدويا جرّاء الحرب الهمجية التي شنتها على سكان قطاع غزة والضفة الغربية، ومختلف المناطق اللبنانية. وبعيدا عن أية قراءة غيبية، فإننا نعتقد بأن هذا السقوط هو نذير بداية نهاية إسرائيل، وما قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرتي اعتقال بحق رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” ووزير الدفاع المقال يوآف غالنت، سوى مؤشر بارز على هذا السقوط المدوّي.

إننا في حركة “ثورة بلا حدود” نثمّن عاليا التضحيات الجسام التي بُذلت طوعا من قبل كل فئات الشعب الفلسطيني، وكل فئات الشعب السوري، وكل فئات الشعب اللبناني، في سبيل الحرية والسيادة والاستقلال، وإننا نتمنى على من يعنيهم الأمر:

  • على الساحة الفلسطينية، بالإفراج طوعا عن الأسرى الإسرائيليين.
  • فيما يعني تنظيم حزب الله، بأن يضع كل مقدرات هذا التنظيم بتصرف الدولة اللبنانية.
  • في ظل سوريا الحرّة، العمل على بناء أفضل العلاقات مع الشعب اللبناني الحر، والدولة اللبنانية الحرّة، وسائر شعوب ودول العالم الحر، على قاعدة تصفير التناقضات وتثمير المشتركات…وإنا لقادرون!

أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية.

متخصص  في علم الدولة وعلم  الجيوبوليتيكا/مؤسس حركة “ثورة بلا  حدود” وأمينها  العام.

Leave a comment